
لا شك أن تبعات جائحة كوفيد-19، وما رافقها من تدهور في الاستقرار الجيوسياسي في المنطقة، وتحديدًا في فلسطين، تركت أثرًا عميقًا على الاقتصاد المحلي. فمع تصاعد الأسعار، وتوقف مئات الآلاف من العمال عن العمل داخل الخط الأخضر منذ السابع من أكتوبر، وتراجع القدرة الشرائية، وتعليق المنح الخارجية، وأزمة الرواتب الحكومية المستمرة منذ سنوات — تراكمت الضغوط على الاقتصاد الفلسطيني الهش، لينكمش بشكل ملحوظ، مفسحًا المجال أمام أزمة نقدية تزداد تفاقمًا يومًا بعد يوم.
وفي ظل الحرب الدائرة في قطاع غزة، والتوتر الإقليمي المتصاعد بين إسرائيل وإيران، تُبرز تهديدات الحكومة الإسرائيلية بوقف العمل باتفاقيات التبادل المصرفي مع البنوك الفلسطينية، مؤشرات مقلقة تنذر بأزمة مالية مصرفية قد تكون الأكبر منذ سنوات. يُلاحظ تزايد تراكم النقد (الكاش) في أيدي المواطنين والشركات خارج النظام المصرفي، مع رفض بعض البنوك استلام الإيداعات الكبيرة، مما يؤدي إلى اختلال حاد في الدورة الاقتصادية.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة:
1. خطر أمني وائتماني: الاحتفاظ بالنقد خارج النظام المصرفي يعرض الأفراد والشركات لمخاطر كبيرة، أبرزها السرقة والخسائر التي لا يشملها التأمين، خاصة في ظل غياب وسائل الحماية والتتبع. كما يؤدي هذا السلوك إلى إضعاف الجدارة الائتمانية للمنشآت التجارية، نظرًا لاعتماد التقييم البنكي على الشفافية والحركة المالية الرسمية.
2. أزمة الشيكات المرتجعة: شهدت السوق الفلسطينية تفاقمًا ملحوظًا في ظاهرة الشيكات المرتجعة، ما يعكس خللًا في الالتزام المالي بين الأطراف التجارية. هذه الأزمة تؤثر بشكل مباشر على ثقة المتعاملين، وتؤدي إلى تزايد المنازعات، وتهدد استقرار المعاملات الورقية، خاصة في ظل غياب آليات إنفاذ فعالة.
3. انتعاش السوق السوداء: في ظل القيود على الإيداع والتحويل الرسمي، تنشأ أسواق موازية للعملات، تُدار غالبًا خارج الأطر القانونية. هذه الظاهرة تُغذي غسل الأموال، وتعزز التهرب الضريبي، وتزيد من حجم الاقتصاد غير الرسمي، مما يضعف قدرة الدولة على الرقابة وجباية الإيرادات.
4. تعطل التجارة الخارجية: يُعد تراكم الكاش داخل السوق المحلي أحد العوامل المعطلة لسلاسل التوريد الخارجية، خاصة في ظل تراجع قدرة البنوك على تنفيذ التحويلات إلى الخارج. هذا التحدي يدفع بعض الشركات إلى اللجوء لحلول بديلة وغير رسمية، ما يقوّض الشفافية ويزيد من هشاشة العمليات التجارية عبر الحدود.
رغم حدة الأزمة النقدية الحالية، فإنها قد تفتح الباب أمام فرصة استراتيجية لإصلاح عميق في المنظومة المالية الفلسطينية. من أبرز ملامح هذا التحول المحتمل هو الاستغناء التدريجي عن الشيكات الورقية، التي أصبحت مرادفًا لعدم اليقين المالي وتأخير السداد، وذلك لصالح أنظمة دفع فورية أكثر موثوقية وشفافية. غير أن هذا التحول لا يجب أن يأتي على حساب سياسات الشمول المالي، بل ينبغي أن يكون جزءًا من استراتيجية وطنية للتحول الرقمي، تهدف إلى تعزيز الشفافية، وتسهيل دمج الشرائح الضعيفة وغير المصرفية ضمن النظام المالي الرسمي، وضمان الوصول الآمن والسهل لخدمات الدفع الحديثة في المدن والريف والمخيمات على حد سواء.
التوصيات العملية:
1. تعزيز التحول الرقمي في المدفوعات: تتمثل الخطوة الأولى في خفض رسوم الدفع الإلكتروني ونقاط البيع (POS)، وتقديم حوافز ضريبية وتسهيلات تنظيمية للتجار والمواطنين الذين يستخدمون الوسائل الرقمية، مما يشجع على الابتعاد عن التعاملات النقدية ويسهم في تقليل حجم الكاش المتداول خارج النظام المصرفي.
2. توسيع استخدام المحافظ الإلكترونية ينبغي تسريع عملية ربط المحافظ الإلكترونية الوطنية المعتمدة بخدمات الدفع الأساسية، مثل فواتير الكهرباء والمياه، ورسوم البلديات والمواصلات، وذلك لتشجيع المواطنين على الاعتماد عليها في التعاملات اليومية وتسهيل دمجهم في المنظومة المالية الرسمية.
3. فرض سقوف على التعاملات النقدية من الضروري وضع سقوف قصوى واضحة للتعامل النقدي داخل المؤسسات الخاصة والعامة، بهدف دفع هذه المؤسسات نحو استخدام أدوات الدفع الرسمية، ما يسهم في الحد من الاقتصاد الموازي ويسهل تتبع التدفقات المالية ضمن الإطار القانوني.
4. تنسيق جهود الضغط السياسي والدبلوماسي يوصى بتشكيل تحالف وطني اقتصادي ودبلوماسي بقيادة سلطة النقد ووزارة المالية، وبمشاركة ممثلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني، من أجل الضغط على الأطراف الدولية لضمان استمرار اتفاقيات التبادل النقدي مع البنوك الإسرائيلية، وتفادي انهيار محتمل في القطاع المصرفي الفلسطيني.
5. إطلاق حملات توعية مجتمعية شاملة ينبغي تنفيذ برامج وطنية للتوعية المالية بالتعاون مع الغرف التجارية، والنقابات، والجامعات، لتثقيف المجتمع حول مخاطر الاحتفاظ بالكاش وأهمية استخدام القنوات الرسمية، مع توضيح البدائل الرقمية المتاحة وطرق الوصول إليها بيسر وأمان