الرئيسية » الاخبار »   02 تشرين الأول 2023  طباعة الصفحة

الاقتصاديون يعيدون النظر في السياسة الصناعية بقلم: داني رودرك**


في الماضي، كثيرا ما كان الاقتصاديون يركزون على مؤشرات كالتعرفات الجمركية على الواردات عند تقييمهم لأداء السياسات الصناعية، محيطين بأبعاد محدودة لهذه المقاييس وخالطين بين أهدافهم وأهداف أخرى. إن الجيل الجديد من الجهود البحثية يتخذ نهجا أكثر إنتاجيّة، ويصل لاستنتاجات مختلفة.
في كامبريدج - مع تنامي توجه صانعي السياسات حول العالم نحو تبني السياسة الصناعيّة في سعيهم لتحقيق مجموعة واسعة من الأهداف، منها مرونة سلاسل التوريد، التكنولوجيا الخضراء، التفوق الجيوسياسي، والوظائف الجيّدة - بلغ الجدل حول فعاليّة السياسة الصناعيّة ذروته. في الغالب، يصور هذا الجدل وكأن الاقتصاد السليم يميل إلى جانب التشكيك. فكما تشير إحدى التعليقات الحديثة، "هناك حجة قوية ضد السياسة الصناعيّة في الاقتصاد"، وأن تبنيها "يهدر الأموال، ويشوه الاقتصاد".
إلا أن هذا التوجه عفا عليه الزمن. في حين أنه من الصحيح عموماً أن ردة فعل الاقتصاديين المعادية للسياسة الصناعية كانت غير مدروسة في سبعينيات القرن الماضي على الأقل، إلا أن الأمور تغيّرت سريعا مع ظهور البحوث الأكاديمية الجديدة التي لا يحركها العداء الأيديولوجي لتدخل الحكومة والمستندة بشكل أفضل إلى أساليب تجريبية امبريقية صارمة.
يقدم هذا الإنتاج الحديث من الأبحاث أدلة أكثر موثوقية لآلية عمل السياسة الصناعيّة، ما يحسن من جودة الجدالات السابقة والتي كانت تزيد من حدة الجدل أكثر مما يلقي الضوء عليه. وهو ما أفضى إلى تقييم أكثر إيجابية عموما، مع تزايد فهم الباحثين الأكثر دقة وشمولية لمثل هذه السياسات.
إن السياسات الصناعيّة معقدة، ومحاولة معالجتها كميّاً لغايات تحليلها قد يكون أمرا صعباً. وهنا نستذكر القفزة الأخيرة التي حققتها الصين في قطاع بناء السفن؛ ففي محاولتها لتصبح الدولة الأكثر تصنيعاً للسفن خلال عقد من الزمان، استخدمت الصين مجموعة واسعة من السياسات، بما في ذلك إعانات الإنتاج، إعانات الاستثمار، وإعانات الدخول. ورافق ذلك إحداث تغيرات كبيرة، كما في العام 2009، عندما ابتعد صانعو السياسات عن تشجيع الدخول إلى الأسواق وركزوا عوضاً عن ذلك على اندماج الصناعات.
في السابق، كان الاقتصاديون أكثر تركيزاً على المؤشرات البسيطة، كالتعرفات الجمركية للواردات، وكانوا لا يحيطون إلا بأبعاد محدودة للسياسة الصناعيّة، خالطين بين أهدافهم وأهداف أخرى (مثل تنمية الإيرادات الحكومية أو ممارسة سياسة المصالح الخاصة). وقد أخذت الجهود البحثيّة الحديثة نهجا أكثر إنتاجيّة.
فعلى سبيل المثال، يقوم مشروع بحثي مقارن في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCED) بقياس كمي للسياسات الصناعيّة عبر عمليات محاسبية مفصلة في النشاط الحكومي، مع التركيز على النفقات الحكوميّة المخصصة على وجه الخصوص لأهداف السياسة الصناعيّة. يقوم فريق من الاقتصاديين بقيادة اثنين منا (ريكا جوهاس وناثان لين)، بتطبيق معالجة اللغة الطبيعية (NLP) على سجلات السياسات المتاحة للجمهور وذلك لتوليد تصنيف تفصيلي للسياسات الصناعيّة. يظهر هذا العمل رؤى جديدة مهمة. بدايةً، السياسة الصناعية موجودة أينما كان، وانتشارها يسبق استخدامها وبروزها في المناقشات العامة حديثا. إضافة إلى ذلك، لم يعد مناسبا - هذا إن كان مناسباً من قبل - ربط السياسة الصناعية بالسياسات التجارية الحمائية؛ فالسياسات الصناعية المعاصرة عادةّ ما تستهدف تعزيز التصدير. فكلما ازداد دخل الدولة زاد انتشار السياسات الصناعيّة فيها: الاقتصادات المتقدمة تستخدم السياسات الصناعية بشكل أكبر وأكثف إذا ما قورنت بالبلدان النامية.
كما أن المنهجيات المطوّرة للاستدلال السببي تقود الاقتصاديين لإعادة النظر في توجهاتهم. جرت العادة أن يقيم خبراء الاقتصاد التأثيرات المترتبة على السياسة الصناعيّة من خلال استكشاف إذا ما تحسن أداء القطاعات الصناعيّة التي تتلقى المساعدات من الحكومة، وبالمجمل، تم التوصل إلى استنتاج سلبي في هذا الخصوص. الآن، بات معروفاً أن هذا الاستنتاج يفتقر للأدلة، وذلك لأنه لا يستطيع التمييز بين الحالات التي كانت السياسة الصناعيّة فيها مفيدة وتلك التي لم تكن فيها مفيدة.
تستخدم البحوث الأحدث تقنيات إحصائيّة حديثة لتجنب الاستدلالات المضللة. وقد تم تطبيق هذه التقنيات على مجموعة واسعة من الحالات، بما في ذلك مراحل تاريخية روج خلالها للصناعات الوليدة (مثل المنسوجات، بناء السفن، والصناعات الثقيلة)؛ البحوث العامة واسعة النطاق والجهود التنمويّة (مثل "سباق الفضاء" بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي)؛ والسياسات الانتقائية الموضعية التي تستهدف شركات أو صناعات محددة (كما حدث في حملة التصنيع في الولايات المتحدة أثناء الحرب العالميّة الثانية والإعانات الأوروبيّة الإقليميّة المعاصرة).
والحقيقة، أن نتائج هذه الأبحاث تميل لتأييد السياسة الصناعية أكثر بكثير، وإلى اكتشاف أن مثل هذه السياسات - أو الأحداث التاريخية التي تحاكي آثارها - كثيراً ما أدت إلى تأثيرات ضخمة تبدو مفيدة في الأمد البعيد لبنية النشاط الاقتصادي. على سبيل المثال، حفّز تعطيل الواردات الفرنسية خلال الحصار النابليوني الصناعات الفرنسية الآلية في غزل القطن بعد فترة طويلة من نهاية الحروب النابليونيّة. تتفق هذه النتائج مع ما قد يجادل به مؤيدو رعاية الصناعات الوليدة.
وهو يقارب ما توصلت إليه الدراسات التي أجريت حول البرامج العامة الأخيرة لدعم الاستثمار في المناطق المتأخرة في بريطانيا وإيطاليا بوجود تأثيرات إيجابية قوية على خلق فرص العمل. ورغم أن هذه الدراسات لا تستطيع أن تقدم إجابة محددة حول ما إذا كانت السياسة الصناعية ناجحة بشكل عام، فإنها تقدم معلومات مفيدة حول مدى انتشار إخفاقات السوق التي تستهدفها هذه السياسة وحول التأثيرات طويلة الأجل التي تخلفها هذه السياسة.
كما سلطت دراسات أحدث الضوء على الجدل القديم حول مساهمة السياسة الصناعيّة في "المعجزة الاقتصاديّة" في شرق آسيا. حيث ادعت أوائل الأدبيات الاقتصاديّة حول نهوض شرق آسيا بأن السياسات الصناعيّة كانت، في أحسن الأحوال، غير فعّالة. وتصل التحليلات الأحدث عهداً، والتي تولي اهتماماً أكبر بهيكل الروابط بين صناعات المنبع والمصب، إلى استنتاجات أكثر تفاؤلاً. على سبيل المثال، وجدت دراسات محرك الصناعات الكيماوية الثقيلة في كوريا الجنوبية (HCI)، وهي سياسة صناعية بارزة - ومثيرة للجدل - اتبعها الرئيس بارك تشونغ هي في سبعينيات القرن العشرين، أن السياسة عززت نمو الصناعات المستهدفة، على المديين القصير والطويل. وكانت تأثير مؤشر رأس المال البشري على الإنتاجية وأداء الصادرات إيجابيّا على حد سواء.
يعتقد منتقدو سياسات شرق آسيا أن الحكومات لا يمكنها أبداً اختيار القطاعات المناسبة لأنها تفتقر إلى المعلومات حول الأماكن التي قد تكون فيها إخفاقات السوق أكثر بروزاً. قدم الخبير الاقتصادي إرنست ليو من جامعة برينستون، مؤخراً، دليلاً مفيداً لصنّاع السياسات الذين يعملون على مواجهة الاقتصادات التي تحدث فيها عيوب السوق عبر قطاعات متعددة مترابطة. في ظل ذلك، يُقلل دعم صناعات المنبع عموماً من الأخطاء السياساتية. يوضح ليو أن السياسات الفعليّة المستخدمة في الصين وأثناء استخدام مؤشر رأس المال البشري في كوريا الجنوبيّة كانت تتماشى مع هذا التوجيه.
انتقد بعض المعلقين، مؤخراً، السياسة الصناعيّة للرئيس الأميركي جو بايدن لأنها "تفتقر إلى أساس اقتصادي صلب". الحقيقة هي أن هناك بالفعل الكثير من الأبحاث الاقتصاديّة الجيّدة حول السياسة الصناعيّة. وفي حين أن المزيد من البحوث مفيد دائماً، فإن الأدبيات الجديدة تزودنا بالفعل بتقييمات أفضل للسياسات الصناعيّة بكل تنوعها، وتقييم عواقب الأمثلة التاريخية والمعاصرة، وإلقاء الضوء على الكيفية التي تعمل بها هذه السياسات أو فشلها اعتماداً على أدواتها وأهدافها، وعلى الهياكل الاقتصاديّة السائدة.
---------
* هذا المقال نشر في موقع "بروجيكت سنديكيت" في 4 آب الماضي، وهو الثاني الذي تنشره "الأيام" ضمن سلسلة مقالات تعريفية بأفكار ونظريات البروفيسور داني رودرك مقدم محاضرة يوسف صايغ التنموية للعام 2023، لمعهد "ماس"، المقررة في 18 تشرين الأول الجاري.
** أستاذ السياسة الاقتصادية الدولية في جامعة هارفارد.