الرئيسية » الاخبار »   22 شباط 2023  طباعة الصفحة

العدالة المناخية والاجتماعية: وجهان لعُملة واحدة

لا يمكن الفصل بين العدالة المناخية والعدالة الاجتماعية، فهما وجهان لعملةٍ واحدة. إذ يُعبتر هذان المفهومان المترابطان من المسائل الحيوية التي تُساهم في تحقيق وبناء مستقبلٍ أكثر إنصافاً واستدامةً للجميع.

في الواقع، تُقر وتعترف العدالة المناخية بالآثار الاجتماعية والاقتصادية والصحية المُختلفة على المجتمعات التي تُسببها أزمة المناخ، وهي تؤكد أنّ هذه الازمة لا تؤثر على الجميع بالتساوي. فتدفع المجتمعات الضعيفة والمُهمشة الأقل مسؤولية عن الانبعاثات الفاتورة الأكبر لأزمة تغير المناخ لتنال النصيب الأكبر من تداعياتها المُدمّرة. الأمر الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى تفاقم وتعميق أوجه عدم المساواة وحالات الظلم القائمة.
وتُعتبر البلدان منخفضة الدخل، والسكان الأصليون والنساء، وكذلك الأشخاص ذوي الإعاقة أكثر عرضة للكوارث المناخية المتطرفة والمُدمّرة لتكون تداعياتها أكبر وأثقل عليهم. ونتحدث هنا عن الفيضانات وحرائق الغابات وموجات الجفاف الشديدة وارتفاع درجات الحرارة… إلى جانب ارتفاع منسوب مياه البحر ومحدودية الوصول إلى الغذاء والماء. لكن المفارقة الكبيرة هنا أنّ هذه المجتمعات الضعيفة لا تمتلك الموارد المالية اللازمة، مع القدرة المؤسساتية للتكيّف مع آثار تغير المناخ من جهة، والتعافي من الخسائر والأضرار الناجمة عنه.
مع العلم أنّ كلفة الخسائر والأضرار تُقدّر بين 290 و580 مليار دولار سنوياً في عام 2030. ومن المؤكد أنّ البلدان النامية والأقل نمواً تتحمّل الفاتورة الأكبر، باعتبار أنّ البلدان الضعيفة هي الخاسر الأكبر في هذه المعادلة.

لماذا العدالة المناخية مسألة محورية؟

لماذا إذاً تكتسب العدالة المناخية هذه الأهمية الكبيرة؟ تأتي أهمية هذا المفهوم باعتباره يُلزم المجتمع العالمي وبخاصة المسؤولين عن أزمة المناخ للعمل مع المجتمعات التي تدفع الفاتورة الأكبر لهذه الأزمة ودعمها بكل الطرق المُتاحة. كما يكتسب هذا المفهوم هذه الأهمية لأنّه يعالج مشكلة أكثر شمولية ومنهجية، وهي السبب الأساسي لهذه الأزمة كلّها والكثير من المشاكل المرتبطة بها. ونتحدث هنا بالتحديد عن النموذج الاقتصادي القائم على الجشع والنزعة الاستخراجية للموارد. فهو الذي تسبب بأزمة عالمية وزاد من الظلم الاجتماعي في جميع أنحاء العالم.

وفي وقت لا يزال العالم بأسره، وتحديدًا منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعاني من وطأة الأزمات المتفاقمة الناجمة عن النزاعات والأوبئة والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعية والمناخية المُدمّرة، وبينما نشهد تراجعأً قياسياً لظروف المعيشة، حيث أصبحت ظروف المعيشة في 90% من الدول حول العالم أسوأ… حققت شركات النفط العالمية الكبرى التي تعد من أكبر المساهمين في أزمة المناخ العالمية أرباحاً باهظة. إذ تضاعفت أرباحها لتصل إلى 219 مليار دولار أمريكي في عام 2022.

على الرغم من أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تساهم بأقل من 5% من الانبعاثات العالمية التاريخية، إلا أنّها من أكثر المناطق ندرة في المياه وتعاني من ظاهرة الاحترار بوتيرة تقارب ضعف المعدل العالمي. وهو الأمر الذي سيكون له تداعيات أكثر على المجتمعات الضعيفة والأفقر في الجنوب العالمي التي تنال النصيب الأكبر من تداعيات كارثة تغيّر المناخ، سواء كان هؤلاء يعيشون في المناطق الصحراوية أو بالقرب من البحر، على الجبال أو في الوديان الخضراء.

وقد باتت مسائل ارتفاع الحرارة والإجهاد المائي وتهديد الأمن الزراعي والغذائي واقعًا يوميًا في المنطقة، إلى جانب ازدياد الكوارث المرتبطة بالمناخ، مع تحوّل الازدياد الكبير في درجات الحرارة إلى خطرٍ مباشر وفعلي على صحة الإنسان. فكل هذه التداعيات تزيد من التفاوتات الإجتماعية، وتقف حاجزاً أمام تحقيق العدالة الاجتماعية. للأسف، إنّ الأرواح تُزهَق، والمنازل تُدمَّر، والمحاصيل تتلف، وسبُل العيش تضيق، والتراث الثقافي يُمَّحى.

غرينبيس شاهدة على الآثار الجسيمة لتغير المناخ


في ظل كل ما يحدث، التقت منظمة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالعديد من أبناء المجتمعات الموجودة على الخطوط الأمامية التي تواجه تحديات تغير المناخ. وقمنا برصد وتوثيق الآثار الجسيمة لتغير المناخ على المجتمعات والموائل الطبيعيّة البحريّة والبرية، بالإضافة إلى كيفية تأثير هذه الأزمة على النظام البيئي والإرث التراثي والحضاري للمنطقة بأكملها. ففي المغرب مثلاً، تُهدد موجات الجفاف غير المسبوقة واختفاء الواحات واختلال التوازن البيئي نمط الحياة البدوي التقليدي للسكان الأصليين الذين يعتمدون عليه. وتُشير الدراسات إلى أنّ ارتفاع درجات الحرارة يهدد أشجار وزيت الزيتون في كل من لبنان ومصر.

في المقابل، أصبحت تهديدات الفيضانات على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، في وقت تشير الدراسات إلى أن بعض المجتمعات الأكثر ضعفًا هي أيضًا تلك الأقل مرونة وتحملاً من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية.
كما لا تقتصر تداعيات أزمة المناخ وشح المياه عند هذا الحد، فيُشكّل التغير المناخي تهديداً عبئاً مضاعفاً على حياة نساء الأهوار في جنوبي العراق وعلى سبل معيشتهم. إذ كان للجفاف الذي حدث خلال السنوات الماضية تأثيراً مدمراً على الزراعة المحلية والثروة الحيوانية في الأهوار. الأمر الذي صعّب على نساء الأهوار كسب رزقهن ودعم أسرهن، مما يزيد من الفقر وعدم المساواة.

وكشف تحقيق أجرته الـ بي بي سي أنّ المجتمعات التي تعيش قرب حقول النفط ومنها مواقع تابعة لشركة بريتيش بتروليوم (bp)، حيث يحرق الغاز في الهواء الطلق، معرضة لخطر الإصابة بسرطان الدم بسبب عملية حرق غاز الشعلة. وسلّط هذا التحقيق الضوء على حقيقة إخفاء شركات النفط العملاقة هناك الحقيقة، وعدم الإعلان عن ملايين الأطنان من الانبعاثات الغازية السامة الناتجة عن حرق “غاز الشعلة” الذي يرافق إنتاج النفط فيها.

كل ما سبق يُظهر بكل وضوح جشع الشركات ودول الشمال الغني الذي لا حدود له، ما يجعل العدالة المناخية يوماً بعد يوم حاجة مُلّحة وضرورية لتحقيق العدالة الاجتماعية.

على المُلوّثين أن يدفعوا الثمن

يحتاج تحقيق العدالة المناخية والاجتماعية على حدٍ سواء إلى إيجاد حلول لمختلف أوجه وأشكال الظلم التاريخية التي ساهمت في أزمة المناخ وتُشكّل تهديداً وجودياً. إلى جانب تمكين المجتمعات المحلية للمشاركة في عمليات صنع القرار المُتعلقة بالمناخ وبناء مستقبلهم.
لذلك تحقيق كل ذلك يتطلب الاعتراف بأنّ الدول والصناعات المُلوثة التاريخية هي المسؤولة عن الأزمة التي يواجهها العالم، وأنّ بلدان الجنوب العالمي التي كانت أقلّ مسؤولية عن الانبعاثات، هي الأكثر تضرراً الآن من تأثيرات تغيّر المناخ وآثاره.
بالتالي إنّ تحقيق العدالة المناخية يبدأ بمحاسبة الدول الغنية والشركات الملوثة، أي المتسببين التاريخيين للانبعاثات وإلزامهم بدفع الثمن وتعويض الخسائر والأضرار الناجمة عن تغيّر المناخ التي تسببوا ولا يزالون يتسببون بها. بالإضافة إلى دعم البلدان منخفضة الدخل للتكيّف وزيادة قدرتها على الصمود أمام تأثيرات تغيّر المناخ عبر نقل المعرفة.

يُعتبر الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز) أكبر مساهم في تغير المناخ العالمي، إذ يُمثّل أكثر من 75% من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية وحوالي 90% من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لذلك يتمثّل الطريق الوحيد لتحقيق العدالة المناخيّة بالاستغناء عن الوقود الأحفوري بكافة أشكاله – الفحم، والنفط والغاز. وتكتسب مسألة دعم جهود التكيّف والتخفيف من آثار تغير المناخ أهمية بالغة هنا، باعتبارها أمراً ضرورياً لتحسين ظروف المجتمعات المعيشية بطريقة مستدامة على مستوى العالم، مع ضمان فعاليتها، مع التأكد من أن تكون منسجمة مع السياق المحلي وبأسعار معقولة.

الناس كأولوية على الربح المالي

إذاً لا يمكننا بناء عالم مستدام وقادر على الصمود وتحقيق العدالة الاجتماعية والمناخية المنشودة، إلا عبر اعتماد نموذج اقتصادي بديل يضع الناس والاستدامة كأولوية على الربح والاستخراج الجشع للموارد.

عندما نضع العدالة المناخية كأولوية، نُحقق مستقبل أكثر عدلاً وإنصافاً واستدامة للجميع. لهذه الأسباب بالتحديد نحن بحاجة إلى العدالة المناخية!